الأشهر الحرم

إن الله تعالى يصطفي من خلقه ما يشاء، وله في ذلك الحكمة البالغة، قال تعالى (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ )[القصص:68]، فهو سبحانه يصطفي من الملائكة رُسُلا ومن الناس، ويفضل من الأوقات أوقاتا، ومن الأمكنة أماكن. ففضّل الله مكة على سائر البقاع، ثم من بعدها المدينة المنورة مهاجرَ محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم من بعدها بيت المقدس مكان أغلب الأنبياء عليهم السلام، وبارك الله في الشام واليمن بعد بركة مكة والمدينة، كما قال تعالى (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ )[الإسراء:1]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اللَّهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ عَبْدَكَ وَخَلِيلَكَ حَرَّمَ مَكَّةَ فَجَعَلَهَا حَرَامًا، دَعَاك لِأَهْلِ مَكَّةَ بِالْبَرَكَةِ، وَأَنَا مُحَمَّدٌ عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ، أَدْعُوكَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ، أَنْ تُبَارِكَ لَهُمْ فِي مُدِّهِمْ وَصَاعِهِمْ مِثْلَيْ مَا بَارَكْتَ لِأَهْلِ مَكَّةَ، مَعَ الْبَرَكَةِ بَرَكَتَيْنِ، وإِنِّي حَرَّمْتُ المَدِينَةَ ما بَيْنَ مَأزَمَيْهَا (أي: طَرَفيها)، أَنْ لا يُرَاقَ فيهَادَمٌ، ولا يُحْمَلُ فيهَا سِلاحٌ لِقِتالٍ، ولا يُخبطَ فيهَا شَجرَةٌ إلا لِعَلَف»  هذا الحديث مجموع من روايات لمسلم (1374)، وأحمد (936)، والترمذي (3914). وقال صلى الله عليه وسلم:« اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي شَامِنَا، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي يَمَنِنَا » الحديث رواه البخاري (7094).

كما فضّل  الله بعض الشهور والأيام والليالي على بعض،  قال تعالى (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) [التوبة:36]، يبيّن الله تعالى في هذه الآية الكريمة أن عدّة الشهور عنده في قضائه وقدره اثنا عشر شهرا، أي إن الله تعالى وضع هذه الشهور وسمّاها بأسمائها يوم خلق السماوات والأرض، وهي هذه الشهور العربية المعروفة: محرّم، صَفَر، ربيع الأول، ربيع الآخِر،جمادى الأولى، جمادى الثانية ، رجب، شعبان، رمضان، شوال، ذو القعدة، ذو الحِجّة، ومعنى هذه الشهور:

1- (محرم): تأكيد لتحريمه لأن العرب كانت تستحلّه عامًا فتتقاتل فيه، وتحرّمه عامًا فتمتنع عن القتال فيه.

2- (صَفَر): سمّي بذلك لخلوّ بيوتهم منهم حين يخرجون للقتال والأسفار.

3- (ربيع): لارتباعهم فيه، والارتباع الإقامة في عمارة الرَّبْع أي المنزل.

4- (جمادى): لجمود الماء فيه.

5- (رجب): من الترجيب وهو التعظيم.

6- (شعبان): لتشعّب القبائل وتفرّقها للغارة والقتال.

7- (رمضان): من شدّة الرمضاء وهو الحرّ.

8- (شوّال): مأخوذة من شالت الإبل بأذنابها للطِّراق.

9- (ذو القعدة): لقعودهم عن القتال والترحال.

(10)- (ذو الحجة):  لإيقاعهم الحجّ فيه.

وبيّن الله سبحانه أن هذه الشهور في كتاب الله، أي في حكمه القَدَرِي يوم خلق السماوات والأرض أجرَى ليلها ونهارها، وقدّر أوقاتها، فقسَّمها على هذه الشهور الاثنى عشر، قال محمد بن علي الشوكاني رحمه الله تعالى: " وفي هذه الآية بيان أن الله سبحانه وضع هذه الشهور ، وسماها بأسمائها على هذا الترتيب المعروف يوم خلق السماوات والأرض ، وأن هذا هو الذي جاءت به الأنبياء ونزلت به الكتب، وأنه لا اعتبار بما عند العجم والروم والقبط من الشهور التي يصطلحون عليها، ويجعلون بعضها ثلاثين يوماً ، وبعضها أكثر وبعضها أقل" اهـ فتح القدير (2/512) وذكرَ مثله الإمام القرطبي في تفسيره . ( منها أربعة حُرُم)، ومعنى حرم( جمع حرام): أنه لا يجوز القتال فيها بل تكون هُدْنة يتمكن الناس فيها من السفر للتجارة وللحجّ والعمرة ولا يخافون أحدًا، وهذه الأربعة هي رجب، وثلاث متواليات: ذو القعدة، وذو الحجّة، ومحرّم.( إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) [التوبة:36] لا ترتكبوا فيها المعاصي فإنها أشدّ حرمة، فإن السيّئات تَعْظُمُ في الأشهر الحُرُم، قال ابن الجوزي رحمه الله في زاد المسير (3/434): « والسر في أن الله تعالى عظم بعض الشهور على بعض ليكون الكفّ عن الهوى فيها ذريعة إلى استدامة الكفّ في غيرها تدريجاً للنفس إلى فراق مألوفها المكروه شرعاً » اهـ . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئتَِةِ يَوْمِ خَلَقَ الله السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ،  وَإِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتابِ الله يَوْمَ خَلَقَ الله السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ  مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثلاثٌ مُتَوَالِياتٍ: ذُو الْقَعْدَةِ ، وَذُو الْحِجَّةِ ، وَمُحَرَّمُ . ورَجَبُ مُضَرَ الذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ ، فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا،  فِي شهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذا...»  الحديث رواه البخاري (105)، ومسلم (1679)، وأحمد (20386).

إن في اختيار الأشهر الحرم دعوة إلى الأمن والسلام في ظِلّ الإسلام الذي أنقذ الإنسانية مما كانت تتخبّط فيه من جهل وظلم وضلال، وقد استدار الزمان بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم إلى كل خير، لأن الله تعالى أراد لرسالة الإسلام إنقاذ الناس من الجهالة والضلال، وهدايتهم وإرشادهم إلى ما فيه الخير والصلاح، قال الله تعالى( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء:107].

وقد اختلف العلماء في حكم القتال في الشهر الحرام على قولين أحدهما: قول الجمهور (أي:أكثر العلماء) أنه منسوخ بنصوص أخرى مثل قوله تعالى  ( إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ )[التوبة:36]، وقوله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ )[التوبة:73]، وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتل ثقيفا في شهر ذي القعدة، وهو شهر حرام، وكانت غزوة تبوك في رجب، وهو شهر حرام. وذهب طائفة من العلماء إلى أن الحكم باق، وأن القتال في الأشهر الحُرُم حرام، لقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آَمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ )[المائدة:2]، وقوله تعالى( الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ )[البقرة:194 ، وأما قتال النبي صلى الله عليه وسلم في الأشهر الـحُرُم، فإنه ليس قتال ابتداء وإنما هو مدافعة  أو تكملة لقتال الابتداء الذي بُدئ في غير الأشهر الحُرُم، وبهذا يُعمل بكل دليل في محلّه. وقد رجّح هذا القول الإمام ابن كثير، وابن عثيمين، وغيرهما  رحمهم الله تعالى.
وخلاصة القول أنها أشهر حرم، ويشمل هذا أمرين:
1- تحريم القتال فيهن، قال –تعالى-: "يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير" [البقرة:217]، ولكن ذهب جماهير أهل العلم إلى نسخ هذا الحكم وجواز القتال، ولهم في ذلك أدلة لا تسلم من مقال، وذهب بعض أهل العلم ومنهم عطاء –رحمه الله- إلى أن الآية محكمة، وأن تحريم القتال باقِ غير منسوخ، لكن سبق القول أن العمل على خلافه.
2- تحريم الظلم فيهن، وإليه يشير قوله –تعالى-: "فلا تظلموا فيهن أنفسكم" [التوبة: 36] على أن أهل العلم اختلفوا في عود الضمير في قوله: "فيهن" فقال بعضهم: الضمير يعود على خصوص الأربعة الحرم، وقال بعضهم: إنه عائد على كل الأشهر، وإنما نص الله –تعالى- على الأربعة لزيادة شرفها وفضلها، وبكل حال فالآية دالة على تحريم الظلم في الأشهر الحرم.
 فالله حرّم فيها الظلم والبغي والعدوان أكثر من باقي الشهور، فإذا كان الظلم والبغي والعدوان حرام في غيرها ففي الأشهر الحُرُم أشدّ حرمة. فعلينا أن نحذر المعاصي، وأن نحذر مكائد الشيطان ومكره، فإنه يتنوع في الكيد ويتلوّن، فهو يوسوس لكلّ إنسان بطريقة تناسبه، فمن كان صالحًا أتاه الشيطان من طريق الصلاح حتى يوقِعه في الغلوّ والتشدّد، أو يبعده بالخير القليل عن الخير الكثير، ومن كان غير صالح زاده إبعادًا عن الخير، كما قال تعالى في قصّة الشيطان في عدوانه مع بني آدم أنه ( قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ )[الأعراف: 16- 17]فالشيطان يوسوس لكل إنسان بطريقة غير طريقة الآخر، ومن أخطرها أن يهون على الإنسان الذنوب  (والذنوب تكون بترك الواجبات أو بفعل المحرمات)، وأن ييأسه من التوبة، أو يسوفها له، فقد قال الله تعالى (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآَنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا )[النساء: 17- 18] وقال تعالى (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ) [الزمر: 53- 55] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ، فإِنَّمَا مَثَلُ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ كَمَثَلِ قَوْمٍ نَزَلُوا  بَطْنَ وَادٍ فَجَاءَ ذَا بِعُودٍ، وَجَاءَ ذَا بِعُودٍ، حَتَّى حَمَلُوا مَا أَنْضَجُوا بِهِ خُبْزَهُمْ، وَإِنَّ مُحَقِّرَاتِ الذُّنُوبِ مَتَى يُؤْخَذُ بِهَا صَاحِبُهَا تُهْلِكُه » رواه أحمد، وغيره، وهو حديث صحيح كما في صحيح الجامع الصغير للألباني (2686).
أيها القراء الكرام، اعلموا –رحمكم الله- أن لله تعالى في أيام دهركم لنفحات (أي هدايا وهبات) وفرصاً فتعرضوا لها،واغتنموها لعلّ نفحة الخير تصيبكم، ومن تلك النفحات الإكثار من الأعمال الصالحات في الأشهر الحرم،
 فهذه الأشهراشتملت على فضائل وعبادات ليست في غيرها :
* الحج، فأفعال الحج كلها تقع في ذي الحجة.
* كما يشتمل ذو الحجة على الليالي العشر التي أقسم الله بها، وتسمى عشر ذي الحجة.
* يوم عرفة وهو أفضل أيام العشر، ويشرع لغير الحاج صيامه.
* كما تشتمل هذه العشر على عيد الأضحى، ويشرع فيه الأضحية.
* يشرع صيام شهر الله المحرم، فقد أخرج مسلم (1163) وغيره من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "أفضل الصلاة بعد الصلاة المكتوبة الصلاة في جوف الليل، وأفضل الصيام بعد رمضان صيام شهر الله المحرم"، ويتأكد صيام يوم العاشر مع يوم قبله أو بعده كما ثبت في الصحاح البخاري (2004)، ومسلم (1130) والسنن الترمذي (754)، والنسائي (2370)، وأبو داود (2446) وابن ماجة (1737) من حديث ابن عباس وغيره

 فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أفضلُ الصِّيام بعدَ رَمضانَ : شهرُ الله المُحَرَّم ، وأفْضَلُ الصَّلاةِ بعدَ الْفَرِيضَةِ : صلاةُ الليل» رواه مسلم (2812). ومن ذلك أن شهر ذي الحجة، قد أقسم الله بالعشر منه فقال تعالى (وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) [الفجر: 1- 3]، والليالي العشر هي عشر ذي الحجة، كما قال ابن عباس ، وابن الزبير ومجاهد، وغير واحد من السلف والخلف، رحمهم الله تعالى، فهي أيام خير وبركة وثواب وهي أيام ذكر وطاعة وبرّ وإحسان، هي أيام مواسم عظيمة، يشترك في خيرها المسافرُ قاصداً البيت الحرام، والمقيم في بلده على الطاعات، وإن العمل الصالح فيها أفضل عند الله من كثير من العبادات، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ يَعْنِي أَيَّامَ الْعَشْرِ ق قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ الله؟ قَالَ وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْء» رواه أحمد (1968)، واللفظ له، والبخاري (969) . فأكرم بها من بشارة، وأربح بها من تجارة، فالعمل العمل، والاجتهاد الاجتهاد، في اغتنام هذه الأيام المباركات التي يشتغل فيها ضيوف الرحمـٰن بأنواع من المناسك والعبادات والقربات. فعلينا من الإكثار من ذكر الله الذي تطمئن به القلوب، والمحافظة على الصالحات من إقام الصلوات، وصلة الأرحام، وإعانة الفقراء والمساكين والمحتاجين ومما يتقرب به المسلم صيام تسعة أيام من ذي الحجة فقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصومها. رواه أبو داود (2437) والنسائي (2417) ، وكان عبد الله بن عمر م يصومها، كما حثّ على صومها الحسن البصري، ومحمد بن سيرين، وقتادة، وكثير من العلماء، رحمهم الله تعالى. كما يتأكد صوم يوم عرفة –لغير الواقف بعرفة- لأنه يوم مغفرة للذنوب، وهو يوم العتق من النار، ومباهاة الله للملائكة بأهل عرفة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :      « مَا مِنْ يَوْمٍ أكْثَرَ مِنْ أن يَعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْداً مِنَ النَّارِ، مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ » رواه مسلم (1348) وسُئِلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم عرفة؟ فقال: «يكفر السنة الماضية والباقية» رواه مسلم (1162). ومما يتقرب به المسلم في هذه الأيام العشر تكبير الله تعالى من فجر يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق وهو اليوم الثالث بعد عيد الأضحى بعد العصر، كما يتقرب المسلم بالأضحية لله تعالى إذا كان موسِراً قادِراً كما يستحب للمسلم صيام تاسوعاء وعاشوراء وهما اليوم التاسع والعاشر من شهر المحرم فقد بيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أَنَّ صِيَامَ عَاشُورَاء يُكَفِّرُ السَّنَةَ الماضِيَةَ»  رواه مسلم (1162)، ويصوم المسلم قبله تاسوعاء مخالفة لليهود.ّ

أيها القراء الكرام، إن الأمن والسلام لن يتحقق إلاّ إذا كان أهله سائرين في طريق السلام، وإنّ الإسلام هو سبيل السلام، لأنه عدل كلّه، وأمان كلّه، والمسلمون هم المأهلّون لنشر السلام في العالم متى ما رجعوا إلى دينهم رجوعاً صحيحاً، وكانوا متبوعين من غيرهم من الأمم، لا تابعين لغيرهم، ولكي يكونوا كذلك فعليهم أن يتمسكوا بالإسلام تمسكاً حقيقياً ظاهراً وباطناً، في كل شؤون الحياة، وليس تمسّكاً، ظاهرياً فقط، أو وراثياً فحسب. وإن من الخطوات التي يجب علينا القيام بها،  الرجوع إلى التاريخ الهجري الذي سار عليه المسلمون، ووقّتوا شؤونهم وأعمالهم به. وإنّ من أضعف الإيمان أن يعرف المسلم تاريخ ميلاده، والشهر الذي هو فيه بالتاريخ الهجري، بجانب التاريخ الميلادي!!.إن التأريخ بالتاريخ الإسلامي، يعبر بجلاء عن اعتزاز الأمة بشخصيتها الإسلامية، وهو برهان على استقلال هذه الأمة الإسلامية بمنهجها المتميّز المستقى من عقيدتها وتاريخها وحضارتها، فيجب على الأمة المحمدية أن تبقى دائما في الريادة، وأن تتمسك بالسيادة، ولا يجوز للمسلمين أن يذوبوا في الأمم الأخرى، لأنهم أمة ذات مجد وحضارة، وتاريخ ناصع، ومنهج مستقل منبثق من كتاب ربها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم ، فلسنا –نحن المسلمون- بحاجة إلى تقليد غيرنا، ولا إلى الإعجاب بهم، ولا يجوز لنا الانهزام أمامهم، مهما أوتوا من حضارة ماديّة، وزخرف الحياة الدنيا، ولقد قال الله تعالى (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [آل عمران:139]، وقال رسول صلى الله عليه وسلم : «الإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى» رواه الدار قطني، وغيره، وهو حديث حسن كما في صحيح الجامع (2778). وقال صلى الله عليه وسلم : «أَضَلَّ الله عَنِ الْجمُعَةِ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا، فَكَانَ لِلْيَهُودِ يَوْمُ السَّبْتِ، وَ لِلنَّصَارَى يَوْمُ الْأَحَدِ، فَجَاءَ الله بِنَا، فَهَدَانَا الله لِيَوْمِ الْجمُعَةِ، فَجَعَلَ الْجُمُعَةَ وَالسَّبْتَ وَالْأَحَدَ وَكَذَلِكَ هُمْ تَبَعٌ لَنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَنَحْنُ الْآخِرُونَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا، وَالْأَوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، الْمَقْضِيُّ لَهُمْ قَبْلَ الْخَلَائِقِ» رواه مسلم (856). وقال صلى الله عليه وسلم: « نَحْنُ الآخِرُونَ وَنَحْنُ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ،(ومعناه: نحن الآخرون في الزمان والوجود، السابقون بالفضل ودخول الجنة) بَيْدَ (أي غيرَ) أَنَّ كُلَّ أُمَّةٍ أُوتِيَتِ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا، وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ، ثُمَّ هَذَا الْيَوْمُ الَّذِى كَتَبَهُ الله عَلَيْنَا، هَدَانَا الله لَهُ ، فَالنَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ، الْيَهُودُ غَدًا، وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ »رواه البخاري (238)، ومسلم(855) واللفظ له. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُم» رواه أحمد (5114)، وغيره، وهو حديث صحيح.

إنه من المؤسف جدّا أنْ صار كثير من المسلمين –في آخر الزمان- يشاركون اليهود والنصارى في الأعياد السّنوية والأسبوعية كعيد ميلاد المسيح عليه السلام، ورأس السَّنَة الميلادية، والراحة يومي السبت، والأحد، فيعطلون الأعمال الرّسمية في تلك الأيام، ويتبادلون التهاني بمناسبتها، ويخصّصون صنع بعض الأطعمة والحلوى، وفي هذا خطر على المسلمين مع مرور الزمن، ولئن كان لبعضهم شبهة من العذر حين كانوا تحت الاستعمار الذي أرغمهم على تناسي تاريخ المسلمين وكثير من شعائر دينهم، فليس لهم الآن بعد تحرّرهم واستقلالهم عذر في البقاء على تاريخ غيرهم وقد أزال الله عنهم وحش الاستعمار وظلمه وطغيانه. مع التنبيه على أنه في الوقت الذي ينهانا ديننا الإسلامي عن التّشبه بغيرنا، ويحذّرنا من الذَّوبان في غيرنا، فإن الله تعالى ينهانا عن ظلمهم والغدر بهم، كما أنه لا يمنعنا الإسلام من استيراد الخبرات النافعة، وشراء الأسلحة والمنتجات المفيدة من غيرنا، وإن كان الأولى والواجب علينا أن ننتج ولا نستورد إلا ما لابدّ منه مما لا يوجد في بلادنا أو في البلاد الأخرى من بلاد المسلمين، ولكنّ الإسلام يحرّم علينا استيراد العادات والتقاليد الفاسدة، ويحرّم علينا التشبّه بغيرنا في عاداتهم، وعباداتهم،  وأعيادهم، وكل ما هو من خصائصهم المخالفة لديننا الحنيف، فليس هناك أي تناقض في الحياة بأن يكون المسلم بارعًا في الرياضيات، والفيزياء، ونحو ذلك، وهو في الوقت نفسه محافظ على دينه، وعبادته، وأخلاقه، وشخصيته المتميّزة، فالإسلام يوجب علينا أن نعتزّ بديننا، ونستقلّ بشخصيتنا الإسلامية، لأننا حملة دعوة صحيحة، ومحلّ قدوة حسنة، وأصحاب عقيدة صافية، وعلينا مسؤولية قيادة البشرية إلى برّ الأمان، والهدوء والاطمئنان، هذه البشرية التي تعاني –اليوم- من الكوارث والظلم والمجاعات والحروب، وتعاني من الضلال والتِّيه عن الصراط المستقيم. قال الله تعالى( يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ )[المنافقون8]، وقال عمر بن لخطاب رضي الله عنه:كنا أذلّة فأعزنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزّة بغير الإسلام  أذلنا الله»، وقال الإمام مالك رحمه الله: لَنْ يُصْلِحَ آخِرَ هَذِهِ الأُمَّةَ إِلاَّ مَا أَصْلَحَ أَوَّلها.

إن المسلمين إذا تمسّكوا بدينهم بحق، ورجعوا إليه بصدق، فإنه سينتشر الأمن، ويتحقق السلام في بلدانهم، وحتى مع غيرهم، فعلينا أن نسعى إلى ذلك سعياً صادقا بعلم وحكمة، وبُعد عن الغلو والتطرف، والإفراط والتفريط، قال الله تعالى (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ )[البقرة:143]، وقال تعالى (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [المائدة:15-16].

 

فقه الحج          عودة

 
Make a Free Website with Yola.